فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وألقى في الأرض رَوَاسِىَ} أي جبالًا ثوابتَ، وقد مر تحقيقُه في أول سورة الرعد {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} كراهةَ أن تميل بكم وتضطربَ، أو لئلا تميدَ بكم فإن الأرضَ قبل أن تُخلقَ فيها الجبالُ كانت كرةً خفيفةً بسيطةَ الطبع، وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك أو تتحركَ بأدنى سبب محرِّك، فلما خُلقت الجبال تفاوتت حافّاتُها وتوجهت الجبالُ بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد، وقيل: لما خلق الله تعالى الأرض جعلت تمورُ فقالت الملائكة: ما هي بمقر أحدٍ على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال {وأنهارا} أي وجعل فيه أنهارًا لأن في ألقى معنى الجعل {وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} بها إلى مقاصدكم.
{وعلامات} معالمَ يَستدِلّ بها السابلةُ بالنهار من جبل وسهلٍ وريح، وقد نُقل أن جماعة يشمّون الترابَ ويتعرفون به الطرقات {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} بالليل في البراري والبحارِ حيث لا علامة غيرُه، والمرادُ بالنجم الجنسُ، وقيل: هو الثريا والفَرْقدان وبناتُ نعش والجدي، وقرئ بضمتين وبضمة وسكون وهو جمع كرُهْن ورُهُن، وقيل: الأول بطريق حذف الواو من النجوم للتخفيف ولعل الضميرَ لقريش فإنهم كانوا كثيري الترددِ للتجارة مشهورين بالاهتداء بالنجوم في أسفارهم، وصرفُ النظمِ عن سنن الخطاب وتقديمُ النجم وإقحامُ الضمير للتخصيص، كأنه قيل: وبالنجم خصوصًا هؤلاء خصوصًا يهتدون فالاعتبار بذلك والشكر عليه ألزم لهم وأوجب عليهم.
{أَفَمَن يَخْلُقُ} هذه المصنوعاتِ العظيمةَ ويفعل هاتيك الأفاعيلَ البديعة، أو يخلق كلَّ شيء {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} شيئًا أصلًا وهو تبكيتٌ للكفرة وإبطالٌ لإشراكهم وعبادتِهم للأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينها وبينه سبحانه وتعالى بعد تعدادِ ما يقتضي ذلك اقتضاء ظاهرًا، وتعقيبُ الهمزة بالفاء لتوجيه الإنكارِ إلى توهم المشابهةِ المذكورة على ما فصل من الأمور العظيمة الظاهرةِ الاختصاصِ به تعالى المعلومة كذلك فيما بينهم حسبما يُؤذِن به ما تلوناه من قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} الآيتين، والاقتصارُ على ذكر الخلقِ من بينها لكونه أعظمَها وأظهرَها واستتباعِه إياها، أو لكون كلَ منها خلقًا مخصوصًا أي أبعدَ ظهورِ اختصاصِه تعالى بمبدئية هذه الشؤونِ الواضحةِ الدَّلالةِ على وحدانيته تعالى وتفرّدِه بالألوهية واستبدادِه باستحقاق العبادةِ، يُتصوّر المشابهةُ بينه وبين ما هو بمعزل من ذلك بالمرة كما هو قضيةُ إشراكِكم ومدارها وإن كان على نسبةٍ تقوم بالمنتسبين، اختير ما عليه النظمُ الكريم مراعاةً لحقّ سبْقِ الملَكةِ على العدم وتفاديًا عن توسيط عدمِها بينها وبين جزئياتها المفصّلة قبلها وتنبيهًا على كمال قبحِ ما فعلوه من حيث إن ذلك ليس مجردَ رفعِ الأصنام عن محلها بل هو حطٌّ لمنزلة الربوبيةِ إلى مرتبة الجماداتِ، ولا ريب في أنه أقبحُ من الأول، والمرادُ بمن لا يخلق كلُّ ما هذا شأنُه كائنًا ما كان، والتعبير عنه بما يختص بالعقلاء للمشاكلة، أو العقلاء خاصة، ويُعرف منه حالُ غيرهم لدِلالة النص فإن من يخلق حيث لم يكن كمن لا يخلق وهو من جملة العقلاء، فما ظنُّك بالجماد وأيًا ما كان فدخولُ الأصنام في حكم عدمِ المماثلة والمشابهةِ إما بطريق الاندراجِ تحت الموصولِ العام وإما بطريق الانفهام بدلالة النص على الطريقة البرهانية، لا بأنها هي المرادةُ بالموصول خاصة {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي ألا تلاحظون فلا تتذكرون ذلك فإنه لوضوحه بحيث لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر.
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله} تذكيرٌ إجمالي لنعمه تعالى بعد تعدادِ طائفة منها، وكان الظاهرُ إيرادَه عقيبَها تكملةً لها على طريقة قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ولعل فصلَ ما بينهما بقوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} للمبادرة إلى إلزام الحجةِ وإلقامِ الحجر إثرَ تفصيلِ ما فُصل من الأفاعيل التي هي أدلةُ الوحدانية مع ما فيه من سر ستقف عليه إن شاء الله، ودَلالتُها عليها وإن لم تكن مقصورةً على حيثية الخلق ضرورةَ ظهور دلالتِها عليها من حيثية الإنعام أيضًا لكنها حيث كانت مستتبعاتِ الحيثيةِ الأولى، استُغنيَ عن التصريح بها ثم بُين حالها بطريق الإجمال أي إن تعدوا نعمته الفائضةَ عليكم مما ذكر وما لم يذكر حسبما يُعرب عنه قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا} {لاَ تُحْصُوهَا} أي لا تطيقوا حصرَها وضبطَ عددِها ولو إجمالًا، فضلًا عن القيام بشكرها وقد خرجنا عن عُهدة تحقيقه في سورة إبراهيمَ بفضل الله سبحانه: {إِنَّ الله لَغَفُورٌ} حيث يستُر ما فرَط منكم من كفرانها والإخلالِ بالقيام بحقوقها، ولا يعاجلُكم بالعقوبة على ذلك {رَّحِيمٌ} حيث يُفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحِرمان بما تأتون وتذرون من أصناف الكفرِ التي من جملتها عدمُ الفرق بين الخالقِ وغيرِه، وكلٌّ من ذلك نعمةٌ وأيُّما نعمة، فالجملة تعليلٌ للحكم بعدم الإحصاء وتقديمُ وصفِ المغفرة على نعت الرحمةِ لتقدم التخلية على التحلية. اهـ.

.قال الألوسي:

{وألقى في الأرض رَوَاسِىَ} أي جبالًا ثوابت، وقد مر تمام الكلام في ذلك {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي كراهة أن تميد أو لئلا تميد، والميد اضطراب الشيء العظيم، ووجه كون الإلقاء مانعاء عن اضطراب الأرض بأنها كسفينة على وجه الماء والسفينة إذا لم يكن فيها أجرام ثقيلة تضطرب وتميل من جانب إلى جانب بأدنى شيء وإذا وضعت فيها أجرام ثقيلة تستقر فكذا الأرض لو لم يكن عليها هذه الجبال لاضطربت فالجبال بالنسبة إليها كالأجرام الثقيلة الموضوعة في السفينة بالنسبة إليها.
وتعقبه الإمام لوجوه:
الأول: على مذهب الحكماء القائلين بأن حركة الأجسام أو سكونها لطبائعها أن الأرض أثقل من الماء فيلزم أن تغوص فيه لا أن تطفو أو ترسي بالجبال وهذا بخلاف السفينة فإنها متخذة من الخشب وبين أجزائه هواء يمنعه من السكون ويفضي به إلى الميد لولا الثقيل.
والثاني: على مذهب أهل الحق القائلين بأنه ليس للأجسام طبائع تقتضي السكون أو الحركة فما سكن ساكن وما تحرك متحرك في بر وبحر إلا بمحض قدرة الله تعالى وحده.
والثاني: أن إرساء الأرض بالجبال لئلا تميد وتبقى واقفة على وجه الماء إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت على وجهه ساكنًا وحينئذ يقال: إن قيل إن سبب سكونه في حيزه المخصوص طبيعته المخصوصة فلم لا يقال في سكون الأرض في هذا الحيز أنه بسبب طبيعتها المخصوصة أيضًا، وإن قلنا: إنه بمحض قدرته سبحانه فلم لم يقل: إن سكون الأرض أيضًا كذلك فلا يعقل الإرساء بالجبال على التقديرين.
والثالث: أنه يجوز أن تميد الأرض بكليتها ولا تظهر حركتها ولا يشعر بها أهلها ويكون ذلك نظير حركة السفينة من غير شعور راكبها بها ولا يأبى ذلك الشعور بحركتها عند احتقان البخاري فيها لأن ذلك يكون في قطعة صغيرة منها وهو يجري مجرى الاختلاج الذي يحصل في عضو معين من البدن، ثم قال: والذي عندي في هذا الموضع المشكل أن يقال: ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كرة وثبت أن هذه الجبال على سطح الكرة جارية مجرى خشونات تحصل على وجه هذه الكرة وحينئذ نقول لو فرضنا أن هذه الخشونات ما كانت حاصلة بل كانت ملساء خالية عنها لصارت بحيث تتحرك على الاستدارة كالأفلاك لبساطتها أو تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت هذه الجبال وكانت كالخشونات على وجهها تفاوتت جوانبها وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد لمنعها إياها عن الحركة المستديرة اه؛ وقد تابع الإمام في هذا الحل العلامة البيضاوي، واعترض عليه بأنه لا وجه لما ذكره على مذهب أهل الحق ولا على مذهب الفلاسفة، أما الأول: فلأن ذات شيء لا تقتضي تحركه وإنما ذلك بإرادة الله تعالى، وأما الثاني: فلأن الفلاسفة لم يقولوا: إن حق الأرض أن تتحرك بالاستدارة لأن في الأرض ميلًا مستقيمًا وما هو كذلك لا يكون فيه مبدأ ميل مستدير على ما ذكروا في الطبيعي.
وأورد أيضًا على منع الجبال لها من الحركة أنه قد ثبت في الهندسة أن أعظم جبل في الأرض وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلث فرسخ إلى قطر الأرض نسبة خمس سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع ولا ريب في أن ذلك القدر من الشعير لا يخرج تلك الكرة عن الاستدارة بحيث يمنعها عن الحركة، وكذا حال الجبال بالنسبة إلى كرة الأرض، ثم قيل: الصحيح أن يقال خلق الله تعالى الأرض مضطربة لحكمة لا يعلمها إلا هو ثم أرساها بالجبال على جريان عادته في جعل الأشياء منوطة بالأسباب، وقال بعض المحققين في الجواب: إن المقصود أن الأرض من حيث كونها كرة حقيقية بسيطة مع قطع النظر عن كونها عنصرًا كان حقها أحد الأمرين لأنها من تلك الحيثية إما ذو ميل مستدير كالأفلاك فكان حقها حينئذ أن تتحرك مثلها على الاستدالة وإما ذو ميل مستقيم فحقها السكون لكنها تتحرك بأدنى قاسر، أما السكون فلأن الجسم الحاصل في الحيز الطبيعي لما يتحرك حركة طبيعية آنية لاستلزامها الخروج عن الحيز الطبيعي ولا يتصور من الأرض الحركة الإرادية لكونها عديمة الشعور، وأما التحرك بأدنى قاسر فيحكم به بالضرورة من له تخيل صحيح، واستوضح ذلك من كرة حقيقية على سطح حقيقي فإنها لا تماسه إلا بنقطة فبأدنى شيء ولو نفخة تتدحرج عن مكانها.
نعم الواقع في نفس الأمر أحد الأمرين معينًا وذكرهما توسيع للدائرة وهو أمر شائع فيما بينهم فيندفع قوله: وأما الثاني: فلأن الفلاسفة إلخ، وأما قوله: إنه قد ثبت في الهندسة الخ فجوابه أنهم قد صرحوا في كتب الهيئة بأن في كل اقليم ثلاثين جبلًا بل أكثر فنسبة كل جبل وإن كانت كالنسبة المذكورة لكن يجوزأن يكون مجموعها مانعًا عن حركتها كالحبل المؤلف من الشعرات المخالف حكمه حكم كل شعرة، على أن تلك النسبة باعتبار الحجم ومنعها عن حركتها باعتبار الثقل وثقل هذه الجبال يكاد أن يقاوم ثقل الأرض لأن الجبال أجسام صلبة حجرية والأرض رخوة متخلخلة كالكرة الخشبية التي ألزقت عليها حبات من حديد، وما يقال: من أن فيه غير ذلك ابتناء على قواعد الفلسفة فلا يطعن فيه لأن ذلك الابتناء غير مضر إن لم يخالف القواعد الشرعية كما فيما نحن فيه، واعترض على ما ادعى المعترض صحته بأنه يرد عليه ما أورد، وظني أنه بعد الوقوف على مراده لا يرد عليه شيء مما ذكر، ونحن قد أسلفنا نحوه واطنبنا الكلام في هذا المقام ومنه يظهر ما هو الأوفق بقواعد الإسلام، ثم ما ذكره المجيب من أن المصرح به في كتب الهيئة أن في كل اقليم ثلاثين جبلًا بل أكثر خلاف المشهور وهو أن في الاقليم الأول عشرين وفي الثاني سبعة وعشرني وفي الثالث ثلاثة وثلاثين وفي الرابع خمسة وخمسين وفي الخامس ثلاثين وفي كل من السادس والسابع أحد عشر والمجموع مائة وسبعة وثمانون جبلًا على أن كلامه لا يخلو عن مناقشة فتدبر، ومعنى {ألقى} على ما نقل ابن عطية عن المتأولين خلق وجعل، واختار هو أنه أخص من ذلك وذلك أنه يقتضي أن الله سبحانه أوجد الجبال من محض قدرته واختراعه لا من الأرض ووضعها عليها وأيد بأخبار رووها في هذا المقام وقد تقدم بعضها، ولم يعد بعلى كما في قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى} [طه: 39]. للإشارة إلى كمال الجبال ورسوخها وثباتها في الأرض حتى كأنها مسامير في ساجة وانظر هل تعد من الأرض فيحنث من حلف لا يجلس على الأرض إذا جلس عليها أم لا فلا يحنث لم يحضرني من تعرض لذلك، والظاهر الأول لعد العرف إياها منها وإن كان ظاهر هذه الآية كغيرها عدم العد، وقوله تعالى: {وأنهارا} عطف على رواسي والعامل فيه {ألقى} إلا أنه تسلطه عليه باعتبار ما فيه من معنى الجعل والخلق أو تضمينه إياه، وعلى التقديرين لا إضمار وهو الذي اختاره غير واحد، وجوز أن يكون مفعولًا به لفعل مضمر وليس إجماعًا خلافًا لابن عطية، أي وجعل أو خلق أنهارًا نظير ما قيل في قوله:
علفتها تبنًا وماء باردًا

وقدر أبو البقاء شق والعطف حينئذ من عطف الجمل وكأنه لما كان أغلب منابع الأنهار من الجبال ذكر الأنهار بعدما ذكر الجبال، وقوله تعالى: {وَسُبُلًا} عطف على {أَنْهَارًا} أي وجعل طرقًا لمقاصدكم {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لها فالتعليل بالنظر إلى قوله تعالى: {وَسُبُلًا} كما هو الظاهر، ويجوز أن يكون تعليلًا بالنظر إلى جميع ما تقدم لأن تلك الآثار العظام تدل على بطلان الترك، وقيل: تدل على وجود فاعل حكيم ففي قوله تعالى: {تَهْتَدُونَ} تورية حينئذ.
{وعلامات} معالم يستدل بها السابلة من نحو جبل ومنهل ورائحة تراب، فقد حكى أن من الناس من يشم التراب فيعرف بشمه الطريق وأنها مسلوكة أو غير مسلوكة ولذا سميت المسافة مسافة أخذًا لها من السوف بمعنى الشم، وأخرج ابن جرير.
وغيره عن ابن عباس أنها معالم الطرق بالنهار.
وعن الكلبي أنها الجبال.
وعن قتادة أنها النجوم، وقال ابن عيسى: المراد منها الأمور التي يعلم بها ما يراد من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة، والظاهر ما ذكر أولًا؛ وأغرب ما فسرت به وأبعده أن المراد منها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تكون في بحر الهند الذي يسار إليه من اليمن، سميت بذلك لأنها إذا ظهرت كانت علامة للوصول إلى بلاد الهند وأمارة للنجاة {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} بالليل في البر والبحر، والمراد بالنجم الجنس فيشمل الخنس وغيهرا مما يهتدي به، وعن السدي تخيص ذلك بالثريا والفرقدين وبنات نعش والجدي؛ وعن الفراء تخصيصه بالجدي والفرقدين، وعن بعضهم أنه الثريا فإنه علم بالغلبة لها، ففي الحديث إذا طلح النجم ارتفعت العاهة، وقال الشاعر:
حتى إذا ما استقر النجم في غلس ** وغودر البقل ملوى ومحصود

وعن ابن عباس أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: هو الجدي ولو صح هذا لا يعدل عنه، والجدي هوجدي الفرقد، وهو على ما في المغرب بفتح الجيم وسكون الدال والمنجمون يصغرونه فرقًا بينه وبين البرج، وقيل: إنه كذلك لغة، واستدل على إرادة ما يعم ذلك بما في اللوامح عن الحسن أنه قرأ، وبالنجم {بضمتين} وعن ابن وثاب أنه قرأ بضم فسكون فإن ذلك في القراءتين جمع كسقف وسقف ورهن ورهن والتسكين قيل للتخفيف، وقيل: لغة، والقول بأن ذلك جمع على فعل أولى مما قيل: إن أصله النجوم فحذفت الواو؛ وزعم ابن عصفور أن قولهم: النجم من ضرورة الشعر وأنشد:
إن الذي قضى بذا قاض حكم ** أن يرد الماء إذا غاب النجم

وهو نظير قوله:
حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق

والضمير يحتمل أن يكون عامًا لكل سالك في البر والبحر من المخاطبين فيما تقدم، وتغيير التعبير للالتفات، وتقديم الجار والمجرور للفاصلة والضمير المنفصل للتقوى ويحتمل أن كيون الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين للاهتداء في مسايرهم بالنجم، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب، وتقديم الجار والضمير للتخصيص كأنه قيل: وبالنجم خصوصًا هؤلاء خصوصًا يهتدون، فالاعتبار بذلك والشكر عليه بالتوحيد الزم لهم وأوجب عليهم، وجعل بعضهم الآية أصلًا لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة والطرق فلا بأس بتعلم ما يفيد تلك المعرفة، لكن معرفة عين القبلة على التحقيق بالنجوم متعسر بل متعذر كما أفاده العلامة الرباني أبو العباس أحمد بن البناء لأنه إن اعتبر ذلك بما يسامت رؤوس أهل مكة من النجوم فليس مسقط العمود منه على بسيط مكة هو العمود الواقع منه على بسيط غيرها من المدن، وإن اعتبر بالجدي فلا يلزم من أن يكون في مكة على الكتف أو على المنكب أن يكون في غيرها كذلك إلا لمن يكون في دائرة السمت المارة برؤوس أهل مكة والبلد الآخر، وذلك مجهول لا يتوصل إليه إلا بمعرفة ما بين الطولين والعرضين وهو شيء اختلف في مقداره ولم يتعين الصحيح فيه، وقول من قال: إن ذلك يعرف بجعل المصلي مثلًا الشمس بين عينيه إذا استوت في كبد السماء أطول يوم في السنة فمتى فعل ذلك فقد استقبل البيت إن أراد بكبد السماء فيه كبد سماء بلده فليس بصحيح لأن الشمس لا تستوي في كبد السماء في وقت واحد في بلدين متنائيين كثيرًا، وإن أراد به كبد سماء مكة فلا يعلم ذلك في بلد آخر إلا بمعرفة مابين البلدين في الطول، وقد سمعت ما في ذلك من الاختلاف، ويقال نحو هذا فيما يشبه ما ذكر بل قال قدس سره: إن معرفة ذلك على التحقيق بما يذكرونه من الدائرة الهندية ونحوها متعذر أيضًا لأن مبنى جميع ذلك على معرفة الأطوال والعروض ودون تحقيق ذلك خرط القتاد، فلا ينبغي أن يكون الواجب على المصلي إلا تحلي الجهة ومعرفة الجهة تحصل بالنجوم وكذا بغيرها مما هو مذكور في محله.